الجمعة، 23 يوليو 2010

السيّدة فيروز.. اكتمالٌ بعد الاكتمال



مشهد:
تحكي القصّة أنَّ فيروز، وهي على مسرحِها كانتْ تقف، بَدَتْ عليها إماراتُ توتّرٍ، سرعَانَ مَا بدأت تنسحب تدريجياً عندما بدأ زياد عَزْفَ لحنٍ على البيانو. لمّا أنهى زياد عزفه غدت ملامح فيروز رائقةً تماماً، تبسّمت.. تورّدت.. اتّسعت عيناها وبان فيهما لمعان.. وئيداً توجَّهَتْ نحوَ الصبيِّ.. تمهّلت في مشيتها.. نظر هو إليها.. أمسكت برأسه وهو جالسٌ ما زال أمام البيانو.. انحنت.. فقبّلت جبينه.. ثمَّ عادت!
لفتتها تساوي ألفَ عامٍ من التصفيق، فكم إذن تساوي قبلة منها على الجبهة؟
--
بعد أن أنجب ابنته نهاد في 21 نوفمبر 1935 بفترة وجيزة، انتقل وديع حدّاد وزوجته ليزا البستاني من قرية جبل الأرز الواقعة في قضاء الشوف بلبنان إلى حي زقاق البلاط في العاصمة بيروت. كبرت ابنته شيئًا فشيئًا إلى أن غدت صبيّة على أعتاب الثانية عشر من عمرها. لمّا لفت حسن صوتها نظر أقرانها في الحي فكّرت في المضي قدمًا، انضمت إلى الإذاعة اللبنانية لتغنّي في الكورس تحت قيادة موسيقي اسمه محمد فليفل. استرعت وهي في كورس محمد فليفل اهتمام مدير الإذاعة اللبنانية في هذا الوقت حليم الرومي.
كلنا مدينون لحليم الرومي، بالطبع ليس لأنه أنجب لنا ماجدة، ولكن لأنه كان أول من سمع الفتاة الصغيرة نهاد وديع حدّاد، وتنبأ لها بمستقبل باهر في الغناء ودعمها. اكتشفها في العام 1950 ومنحها فرصة الغناء في الإذاعة، لحّن لها بضعة أغنيات، ولم يرتح لاسم نهاد حدّاد فدعاها بـ"فيروز". ولعلّه لم يكن يعي تمامًا أنه اختار الاسم الذي سيولع به الملايين.
بعد عامين التقت الفتاة بمنصور وعاصي رحباني، الشقيقان اللذان يحملان مشروعًا موسيقيًا إنسانيًا متكاملاً، تعرفت السيّدة فيروز على الأخوين رحباني. وكانت "حبذا يا غروب" هي باكورة التعاون بين السيّدة فيروز والرحابنة، التعاون الذي أحدث ثورة في الموسيقى العربية، فالأغنيات كانت قصيرة المدّة، تمتزج الموسيقى فيها بين الأنماط الغربية الكلاسيكية أو الجاز وبين الألوان التقليدية للغناء في لبنان مثل العتابا والميجنا.

عام 1955 تزوّجت السيّدة فيروز إلى عاصي، بعدها بعامٍ أنجبت زيادًا، ثم هالي (مُقعد) 1958، وبعدهما ليال (1960 – 1988)، وأخيرًا المصوّرة ريما (1965). وعام 1955 أيضًا، غنّت السيّدة فيروز "عتاب" التي كتبها ولحنها الأخوان رحباني. عندما عاتبت السيّدة فيروز حبيبها، كان القطار قد بدأ رحلته التي لن تنتهي.

معجزة اكتمال المشروع
صوت فيروز معجزة ولكن معجزة فيروز أكبر من صوتها. معجزة فيروز في اكتمال مشروعها ثم اكتماله بعد الاكتمال. معجزة فيروز في أنها عرفت أن صوتها معجزة فصنعت به معجزات موازية. معجزة السيّدة فيروز أنها غنّت بصوتها الذي ليس كمثله أغنيات ليس كمثلها.
خرجت السيّدة فيروز بالأغنية العربية إلى نطاقاتٍ أكثر اتساعًا، موسيقيًا هناك من يربط بين السيّدة فيروز والرحابنة بشكلٍ زائدٍ عن الحد مضخمًّا من حجم تأثير الشقيقين على المشروع. الرحبانة كمًا أكثر من قدّم أغنيات لفيروز ولكن تأثيرهم الكيفي على مشروعها أقل مما قدّموه. بعد أن تجاوزت السيّدة فيروز بداياتها والتي سطرها الرحابنة بامتياز سارت بتوازٍ على حبلٍ بينهم وبين فليمون وهبة. يقدّم لها عاصي ومنصور الألحان الحريرية الرحبة المخملية المُنسابة مثل "يا حنيّنة" ونحن والقمر جيران" و"نحن الهوا جرحنا"، ويعطيها فليمون بعضًا من ثِقلٍ ورصانة واتزّان و"يشرّق" بها عندما تغنّي "يا ريت" أو "يا مرسال المراسيل" أو "طلع لي البكي". فيتوازن مشروعها الذي سيبدو أكثر جنوحًا للغرب لو تُرك للرحابنة فقط.

يا ريت منن.. السيّدة فيروز.. فليمون وهبة


انطلقت السيّدة فيروز بعيدًا عن مصر، واكتملت بعيدًا عن مصر، ولكنّها قطفت من مصر زهورًا ومنحتها في المقابل من عطرها الذي لا مثيل له. عام 1961 تحققت أمنية محمد عبد الوهاب بأن يلحّن لها أغنية فكانت "سهار بعد سهار"، وفي عام 1967 لحّن لها "سكن الليل". ضمّنت الأغنيتان في شريط مع أغنيتين أخرتين غنتهما سابقًا لعبد الوهاب من أغنياته، "يا جارة الوادي" و"خايف أقول اللي في قلبي".
ومرّت خمسينات الرحابنة وستينات التوازن لتأتي بصمة مغايرة في السبعينات. والحكاية كلها في مرض عاصي عام 1973، ومرض عاصي ودخوله المستشفى وضع منصورًا في ورطةٍ إذ أن هناك مسرحيةٌ اسمها "المحطّة" لا بد أن تكتمل وأغانٍ يجب أن تُلحّن. وجاء زياد الذي ظهر للمرة الأولى منذ عامٍ بشريطٍ غنائي ليلحّن لأمّه وهو ابن السابعة عشر، وطَلَع علينا الزّياد بـ"سألوني الناس"، فنالت استحسان السيّدة فيروز، فغنّتها فاستكمل المشروع اكتماله.

بيذكّر بالخريف.. السيّدة فيروز.. زياد الرحباني



أنهت السيّدة فيروز كلَّ الموسيقى، أتت على التراث الغنائي اللبناني فغنّت مووايل العتابا والميجنا وأغنيات الأعراس التقليدية، غنّت الموشحّات والشعر القديم بادءةً بعنترة بن شدّاد، وامتزجت أحيانًا مع التانجو، ونهلت من بحر سيّد الموسيقى العربية الشيخ سيّد درويش البحر، وهي الآن تعلم العرب كيف يقدمون موسيقى الجاز، مع زياد الرحباني.

سيّدة التفاصيل
نقلت السيّدة فيروز الغناء العربي إلى فضاءات أوسع. ليس فقط لأنها تنوّعت في الموسيقى ولم تخش أيًا من أنماطها. ولكنّها تميزت في اختياراتها الشعرية فغنّت كما لم يغنّ أحد.
فالوطن عند فيروز ليس قواعدًا للمجد يبنيها أيًا من كان وحده، والأغنية الوطنية ليست دائمًا مناسبةً لمدح قيمة مطلقة اسمها الوطن وهجاء شبح افتراضي اسمه العدو، الوطن عند فيروز "قهوة عَ المفرق" كانت تلتقي فيها مع من تحب ثم "جيت لقيت فيها عشاق اتنين صغار قعدوا على مقاعدنا سرقوا منّا المشوار"، هي وحبيبها كبرا والعاشقان الصغيران أتيا مكانهما وتمر الأيام و"تخلص الدني وما في غيرك يا وطني بتضلك طفل صغيّر". الوطن لدى السيّدة فيروز ناس نعرفهم وأماكن نحبها، تنتقل من القيمة المطلقة الافتراضية إلى الأشياء الملموسة التي نعرفها ونراها كل يوم والتفاصيل التي نحبها.
فلسطين عند السيّدة فيروز في أوقاتٍ "غضبٌ ساطع آتٍ" ولكنها في أوقاتٍ أخرى مزهرية هي ما تبقّت لها من فلسطين، أو "جسرًا خشبيًا يسبح فوق النّهر.. ضحك الفجر وحيّا وصحت قمم الزهر". هي هنا تغنّي للجسر الرابط بين الأردن والضفة الغربية، والذي يمر من خلاله العائدون إلى أرضهم. هي تغنّي لمَعْلَمٍ يعرفه الفلسطينيون فيتذكرونه وهم يمرّون، كما تذكّر الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي الأغنية وهو عائدٌ إلى رام الله بعد ثلاثين عامًا. تذكّر وهو عائدٌ وكتب ما تذكّره في "رأيت رام الله".

السيّدة فيروز.. يا جسرًا خشبيًا



وكما أن الوطن عند السيّدة فيروز أشياء نعرفها ونراها ونحبها لا مجموعة من القيم المطلقة، فإن حكايات الحب أيضًا تصاغ بشكلٍ مختلف. فعندما تشعر ببعدِ من تحب لا تلومه بعبارات كـ"يا ظالمني" أو "قلبي من رضاك محروم"، ولكنّها تحدّثه عن فستانها الجديد الذي فصّلته خصيصًا من أجله ولكنه لم يهتم رغم أن "ما ضل فيه إنسان إلا وقف.. واتأمله.. وقال لي حلو.. ولو شفت كيف اتعجبّوا الجيران.. بالخصر.. بالزنار.. بالألوان.. لكن أنا شو همّني الجيران.. شو همني صحابي.. ومين ما كان.. بدّي الحلو بس الحلو يقللي حلو مبروك هالفستان"، قبل أن تسائله بمرارةٍ عن أسباب اعتنائها بهذا الفستان "لمين هالفتسان فصّلته؟ للناس؟ للجيران؟ للقمر السهران؟ غلطان!".

الفستان.. السيّدة فيروز



عندما تحب، فإنها لا تقول فقط إنها تحب، أو أن أيامها غدت أحلى أو أجمل أو أن الحبيب عوّضها عمّا فاتها، فالحب كالوطن والحب والوطن كلاهما ليسا قيمًا مطلقة، وكما أن الوطن أماكن نعرفها وقصص نعيشها فتستغرقنا فإن الحب تجربة فيها ما فيها من مواقف وحكايات جديرة بأن يعبّر عنها غناءَنا. فهي تتجاوز مثلاً عن حقيقة أنها تحبه لتذكّره بما هو أكثر أهمية "فايق عليي وقت اللي كنّا بهاك العليّة؟ كنّا نلعب بالقناطر وقت الصيفية"! الحب ليس مجرّد امتداح عيون المحبوب وشعره وسماره أو بياضه، التجربة قصّة بها تفاصيل أكثر عمقًا لتغنّى.
وهنا الإعجاز لدى السيّدة فيروز.. وهنا الاكتمال.. هنا العجز المطلق عن الكتابة لأن وصف الكمال أمر محفوف بالمخاطر وهنا الولع بالكتابة لأن في الحكي عن الكمال إشباع لشهوة.. صمت أنسي الحاج كثيرًا قبل أن يبدأ الكتابة عنها ولكنّه بعد المرّة الأولى ظل يكتب "إن سعادتي هي أن لا أعرف غير أشخاص يحبون هذا الصوت كما أحبه، وأن يزداد عددهم كل يوم. فليس مجدي فقط أنني أعيش في عصر فيروز، بل المجد كله أنني من شعبها. لا وطن لي غير صوتها، لا أهل غير شعبها، ولا شمس غير قمر غنائها في قلبي".