وكانت الأغنية الشعبية تتناول موضوعات تقليدية كالخيانة، وشكوى الزمان، والتشاؤم، لكنها أصبحت الآن مختلفة عما كانت عليه، ربما أصبحت أكثر أدائية، على عكس ما كانت عليه، أحد أهم من غنوا هذا النوع من الغناء كان المغني الشعبي حسن الأسمر، الذي جمع مزيجا غريبا من غناء التفاؤل والتشاؤم، بل وغناء كلمات الضياع على إيقاع راقص يتحدى كآبة المعني
**
شاب من العباسية، ذو أصول صعيدية قنائية، بوحمة على جبهته تعمد إخفائها في غلاف أول ألبوم.. تبدو عليه ملامح الحرفيين الذين صعدت أسهمهم في الثمانينات على حساب سمعة الموظفين البائسين الذين استهزأت بهم أغلب أفلام الثمانينات، لم يأت حسن الأسمر لينتقم من طبقة مارست التضييق على طبقته، لم يأت ليكافح ثقافة المدينة لحساب العشوائيات ذات الحس الريفي، بل جاء ليتسلل كواحد من أبناء المدن، كابن لحي العباسية الذي شاع في وقت لاحق انه سيرشح نفسه ممثلا عنه في المجلس النيابي، جاء حسن الأسمر ولم يتناول قضايا هامة مثل شعبان عبدالرحيم، ومنذ البداية برز الفارق بين عدوية الاسكندراني ذو الأصول المنياوية، وحسن الأسمر القاهري ذو الأصول الصعيدية الجنوبية بمزاجه الحساس، أو العكر في بعض الأحيان
** بإمكاننا أن نلمح الآن الفارق الواضح بين حسن الأسمر في غنائه توهان توهان توهان.. عالم مليان دخان، وبين أغاني أخرى ظهرت بعده بعشرين سنة كأغنية البانجو مش بتاعي، هو الفرق بين جلسة تحشيش في حجرة أو مُكنة على طريقة حشاشين أم كلثوم، وبين السكر العلني في أفراح المولد أو ممارسة التحرشات الجماعية بعد سماع أغنية العنب بعد رقص دينا، بل ويقدم حسن الأسمر مبررات لتراجيديا التوهان التي بدأ بها، فهو لم يخاطب الحس الجماعي العاهر، بقدر ما يخاطب التوحد واجترار الالام مع الصحبة، كصوفي مر بحلقة ذكر فجلس يذكر الله، لا كعضو في جماعة دينية يخضع لقوانينها.. مع الفارق في التشبيه
هذا الصراع بين الاندماج في مجموعة مرحة، وبين اجترار الألم الخاص، يظهر في بدايات مشوار الأسمر داخل الأغنية الواحدة، كما نلاحظه أيضا في تضارب عناوين الأغاني داخل الألبوم الواحد
**
على سبيل المثال.. يفتتح مشواره بموال الصبر.. مقتديا بأساتذة الشعبي ومن سبقوه في غناء الموال.. فشفيق جلال غنى موال الصبر، لكن بلحن رصين وكلمات مقبولة، عدوية غنى موالا آخر للصبر ورصعه ببعض الحكمة، لكن حسن الأسمر جعله أقرب إلى الندب والنواح
"ويسألوك يا ودع.. ازاي نداوي الجروح ** والجسم تدبل وردته.. وتضيع حلاوة الروح ** والخد تنشف دمعته.. بين البكا والنوح"
ثم يجرب بعد ذلك خلطته التي ستسيطر على أجواء الثمانينات والتسعينات.. كلمات الضياع، ومقام ثقيل كالصبا او الحجاز، يرافقهما إيقاع راقص، وأنت هنا لا تدري، هل ترقص أم تبكي؟ بل قد تجد داخل كلمات نفس الأغنية ما يجمع حالة التفاؤل بحالة الاكتئاب الحاد
عشت الحياة بالطول والعرض ** لا طولت فيها سما ولا أرض
فهو من جرب متع الحياة، لكنه في النهاية لم يحقق شيء لحياته الأرضية، ولن يفيده عمله في مواجهة الإله يوم الحساب، خسر الدنيا والدين.. وتسير الكلمات كلها على هذه الوتيرة التي ترسم الحياة بلون أسود، ثم تضيف إليه الأبيض، لتجد حالة رمادية تسيطر عليك
والملفت أن لحن الأغنية التي أعقبت موال الصبر مشابه جدا لكوبليهات أغنية أخرى من غناء نادية مصطفى راجت في هذه الفترة، وهي أغنية سلامات، التي تخاطب المغتربين خارج مصر في زمن الهجرة إلى البلاد العربية، نفس مقام الصبا، ونفس الروح الصعيدية، وكأن فارس صعيدي يرقص على نغمات المزمار.. لكن الكلمات في الأغنيتين كلمات مهزومة تعبر عن أجواء التشتت التي أعقبت زمن السلام والمقاطعة في مصر
**
موال الصبر السابق كان في بدايات حسن الأسمر، حيث جمع التفاؤل والتشاؤم، والنصر والهزيمة في أغنية واحدة، بمقام الصبا الحزين، والإيقاع الراقص.. لكننا نلاحظ في ألبوم توهان نفسه الذي أصدره عام 1984، عناوين مغايرة تماما لأجواء الصبر مثل : كله يدلع نفسه وأغنية تمثيلية الساخطة على الحبيب
أي أنه بدأ بأن جمع التفاؤل والتشاؤم معا، سواء في داخل الأغنية الواحدة، أو في عناوين أغاني الألبوم الواحد
رسم حسن الأسمر مساره منذ بداياته الأولى، وسيسير في نفس هذا الطريق ليغني بعد ألبوم توهان مجموعة من أشهر مرثياته "كتاب حياتي يا عين، ما شوفت زيه كتاب، الفرح فيه سطرين، والباقي كله عذاب"، وهي من مقام الصبا أيضا، ويغني موال السنين، وفي نفس الوقت يرافق هذه المرثيات أغنيات أخرى مقبلة على الحياة بتهور، كأغنية الواد الجن : "أنا أنا الواد الجن، اللي لا يهدى ولا يون"، وأغنية "مش حسيبك"، أو "أعملك إيه حيرتني".. والملفت أن كافة هذه الأغاني تحمل ملمح صعيدي من الناحية اللحنية ، وكأنها من أغاني الريس متقال، لكنها متوائمة مع المدينة، ولعل مرجع هذا هو أن حسن الأسمر كان لديه هذا الوعي، أنه يقدم أغاني شعبية مدينية، ففي زمنه كان الغناء الشعبي الريفي له من يمثله، كخضرة محمد خضر، وفاطمة عيد، والريس متقال.... على عكس ما يحدث الآن حين اختلط فن المدينة مع الريف، فأوجد جيلا من المغنيين يستخدمون أجواء الموالد بتوزيعات ينسقها من يزعمون أنهم ديجيهات، أما حسن الأسمر فكان يعي هذا الفارق ، بل هو من كان لديه تطلعات طريفة جعلته يحمل لقب مايكل جاكسون مصر!!
**
كان لدى حسن الأسمر الوعي بأنه امتداد لأحمد عدوية آخر منتجات شارع محمد علي، وأنه امتداد لجدهما الأكبر محمود شكوكو ابن الدرب الأحمر، لذا ليس مستغربا أن يغني أغنية تحت عنوان "جرحوني وقفلوا الأجزاخانات"، التي هي في الأصل عنوان أغنية لمحمود شكوكو، أو أن يغني أغاني الأفراح التقليدية كأغنية "حلال عليك ست الحلوين.. عرفت يا عريسنا تنقي" كامتداد لمغنيين ومغنيات من نوعية محمد رشدي، وشريفة فاضل، وشفيق جلال، ومها صبري، وغيرهم.. لقد حدد حسن الأسمر مساره منذ البداية، فهو ابن المدينة الذي يتشرف بغناء ألحان ممزوجة بروح شارع محمد علي، دون أن ينكر جذوره الصعيدية التي تقتحم كثير من أغانيه بألحان ومزاج حساس حزين مغترب، هو ابن مرحلة الثمانينات التي انسحب فيها المصريون إلى داخلهم، فجاءت معاني كلماته انعكاس لمفارقة شعب يقاطعه العرب، لكنه يتوجه للعمل في البلدان العربية، وهو ابن السلام حيث لا صديق ولا عدو، مرحلة التوهان
**
حسن الأسمر.. أحد من عبروا عن مرحلة، وهو آخر من نالوا بركة شارع محمد علي بصورة مباشرة، ولم يكن له تلاميذ شعبيين سوى حكيم الذي ظهر في أوائل التسعينات في فترة تربع الأسمر على الأغنية الشعبية، وأعتقد أن تأثيره لم يختف كليا، خاصة عند مغني شاب مثل حمادة هلال، الذي اهتم بغناء التراجيديات والأغاني المتشائمة