الخميس، 23 يوليو 2009

سمير الاسكندراني.. عباءة الغورية والبدلة الإيطالية

مغنى بدرجة عميل
 --
 بدون سبب، بدأت في إعادة اكتشاف مغن غامض اسمه سمير الاسكندراني، الجميع يعرفه بصورة أو بأخرى، لكن بعد أن سمعت أهم أغانيه التي قدمها في السبعينات والثمانينات وقعت في أسر شخصيته قبل أغانيه، قد يكون سبب هذا هو انحيازي إلى صف من ولدوا في رحاب القاهرة الفاطمية، فوجودك بين أسوار القاهرة القديمة وبقايا أثار الماضي يجعلك تدرك مبكرا معنى أن تكون قاهريا، حولك المهاجرون والوافدون والباحثون عن الرزق من المحافظات الأخرى في المواسم والموالد، لكنك بنبرة متباهية.. تقول أنا ابن البلد، ولا تقبل من الآخرين إلا أن يكونوا مثلك ابن البلد سمير الاسكندراني المولود في حي الغورية، وقع في معضلات مبكرة شكلت حياته، فهو بطل درامي نموذجي، ابن بلد شعبي، والده تاجر موبيليا يستضيف ليالي السمر والأنس فوق سطح منزلهم، أما هو فيتعلم ويدخل كلية الفنون الجميلة، وقبلها بقليل يقابل معضلة أخرى بعد انتقاله إلى شارع عبدالعزيز حيث الأجانب والخواجات، فيصدم حضاريا ويقع في اسر هوى جارته الايطالية المراهقة يولاندا

بإمكاننا الآن أن نكمل قصة سمير الاسكندراني على أنه بطل تراجيدي، لكن... هذا السعيد الهانئ لا يستحق منا ذلك، على أي حال تكونت دراما القصة في فترة المراهقة

، فالعشق الايطالي دفعه إلى الرحيل إلى ايطاليا لدراسة الفن، وروح ابن البلد جعلته يتصرف بذكاء مع الموساد حين أرادوا تجنيد شباب مصري في أوروبا، وتخابث على عملاء الموساد حتى اطمأنوا، وما أن عاد إلى مصر، حتى سقط أمام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يشكو إليه ويطلب المساعدة، وبدأت لعبة جديدة مع الموساد أسقطت شبكة من جواسيسهم في مصر **

ما هو مصير عميل مخابرات سابق تم الكشف عن شخصيته في الصحافة المصرية منذ ستينات القرن الماضي؟ هل يستمر في العمل كأكاديمي في كلية الفنون الجميلة؟ هل يرحل خارج مصر؟ النهاية التقليدية لهذا النموذج من العملاء هو أن يستقر في "بزنس" خاص.. شركة سياحية، توكيل تجاري.. لكن في هذا الزمان البعيد كانت البلاد ما زالت مغلقة.. لم تنفتح، كما أنه لم يكن "ضابط" مخابرات، بل كان مجرد شاب دفعه الحظ وظروفه الدرامية ـ الغورية الايطالية ـ إلى هذا الطريق.. عمل الاسكندراني مبكرا في القسم الايطالي بالإذاعة، وبدأ في التعبير عن نفسه عبر الغناء، وتعرف على محمد عبدالوهاب واقترب أكثر من مجال الموسيقى، لكن كأي بطل درامي، لا بد من أن يظل أسير مجموعة من المؤثرات.. ومثلما كان الطموح الغربي والروح المصرية هي السبب في انزلاقه إلى العمل المخابراتي.. كانت نفس تلك الملامح هي المسيطرة على الموسيقى التي أراد تقديمها ** إلى جانب تقديمه الأغاني الأجنبية بصوته قدم أيضا موشحات قديمة وطقاطيق وأغاني تراثية وفلكلورية في قالب جديد متأثرا بروح الديسكو التي راجت في السبعينات، حتى أن مقدمة أغنيته زمان زمان تشبه إلى حد كبير مقدمة أغنية كوبا كابانا التي اشتهرت في نهاية السبعينات، واستدعي كثير من أغاني الروقان، أه يا جميل يا مسليني، وقمر له ليالي.. ولم يخجل من تقديم بعضها في مقامات شرقية مثل البياتي، وان كانت الأغاني التي قدمها من مقامات النهاوند والكورد هي الأكثر قربا من روح الديسكو العالمية آنذاك.. و لم يعجز أمام أغاني مثل قدك المياس التي قدمها في مقام الحجاز بحس عالمي رغم تطفل النغمات الشرقية على الأغنية، بل وفي أغنية مين اللي قال قدم أغنية من مقام الصبا وهو متمسك بإيقاع ونحاسيات الديسكو والبوب، وكذلك فعل في يا ناس أنا دوبت في حبه لسيد درويش من مقام الحجاز كار ولأنه جرب الغناء بالانجليزية والايطالية، فاتجه إلى الفرانكو أرب، و استعار أغنية Take me back to Cairo من الأرشيفات ودمجها في أغنية فلكلورية هي يا نخلتين في العلالي ** إن الصورة التي قدمها مؤخرا عزب شو عن سمير الاسكندراني وكأنه سلطان يعيش في أحد بيوت الغورية القديمة هي أقرب الصور التي ارتبطت في ذهننا عن هذا الفنان، هو سلطان من زمن أولاد البلد يعيش في حلة إيطالية أنيقة. ويمكننا أن نقول بضمير مرتاح أن محمود عزب يدين بشهرته إلى سمير الاسكندراني بعد أن بدأ في تقليده منذ منتصف التسعينات متهكما على أدائه، مستغلا مظهره غير المألوف لمغني ذو عباءة عربية برفقة فرقة حديثة ** ولأن الاسكندراني كان وما زال أسير ماضيه "الوطني" فأصبح هناك مغزى لمواعيد ظهوره في الإعلام وأماكن تواجده، كأن يكون ضيفا على موائد الوحدة الوطنية أو على الشاشة يتحدث في مناسبة وطنية عن المخابرات وتجربته معها، وكأنه رجل علاقات عامة. ولعله أدرك في الماضي أنه لن يكون مطربا تقليديا، لذا اختار موسيقى فلكلورية مطعمة بروح عصرية، وكأنه صاحب رسالة وطنية، لعل غيره قد يغنيها، أو أن يفعل مثلما فعل في أغنية يا صلاة الزين التي عدل كلماتها لتصبح أغنية وطنية، وكذلك حين اختار كلمات من نوعية "يا رب بلدي وحبايبي". في حالة قريبة من محمد نوح مغنى الوطنية وتحفيز الهمم، الذي كان يؤدي في فترة سابقة دورا منافسا لأغاني الشيخ إمام وفؤاد نجم "الهدامة" حسب منطق الحكومة آنذاك ** سمير الاسكندراني الذي اعترف في أحد البرامج بأنه يقضى أغلب وقته حاليا بعيدا عن الأسرة.. لا أستطيع أن أصفه بالبطل التراجيدي الذي وقع في أسر الطموح الإيطالي والانتماء القاهري الغوري، بل أحسبه سعيدا بما هو عليه الآن، خاصة وان مصر لا تنسى رجالها