الأحد، 16 سبتمبر 2018

رشيد طه.. أراد كل شئ فأصبح كل شئ

يحفظ أشعارا قديمة، يتحدث في السيرة النبوية، صوفي، أفريقي، عربي، عربيد.. يصف المغني الراحل رشيد طه نفسه بأمور عدة في أقل من 10 دقائق، كما بدا في دردشة إذاعية قصيرة. وهكذا اختار مشواره الغنائي متنوعا ومركبا من مكونات عديدة.

في البدء كان الاختيار واضحا، لن يتقوقع داخل موسيقى عالم المهاجرين العرب في فرنسا، ولن يتبنى السائد حوله من موسيقى عصرية يخفي بها هويته، لكنه اختار مزيجا غير مألوف من موسيقى الروك والموسيقى الجزائرية (الراي، الشعبي). فالطفل الذي ولد عام 1958 بمدينة سيق غرب الجزائر ثم انتقل في سن العاشرة إلى الإلزاس بفرنسا عاش مكافحا، ولم ينس من هم على هذه الشاكلة أو كما قال في الدردشة السابقة "أحب الماضي.. وأحب الحاضر".
في الفترة الأولى من حياته الغنائية، شارك في تأسيس فرقة carte de séjour أو (بطاقة إقامة) عام 1980، مع مجموعة من الشباب المغاربي يغنون الروك على النمط الأمريكي والبريطاني، لكنهم في الوقت ذاته يقدمون ألحانا جزائرية يغلفونها بأنغام عصرية، وهنا ينجح رشيد طه في إتاحة مجال حركة واسع لنفسه في عالم الغناء.
أغنيتان من عام واحد تكشفان كيف سار الأمر مع المغني الشاب آنذاك، وهما نموذجان لرافدين لن يتخلا عنهما رشيد طه، موسيقى الروك والموسيقى الجزائرية. في الأغنية الأولى zamana من العام 1984 يقدم رشيد طه المغني بفرقة كارت دي سيجور، لحنا وكلمات مغاربية تقليدية، ومع انطلاق اللحن، يضاف إليه إيقاع الروك مع الجيتار الصاخب، أما في الأغنية الأخرى يقدم أغنية "حبيبي" بكلمات عربية عن معاناة شاب في ظروف الغربة والفقر، أما اللحن فلا يبرز فيه الملمح العربي سوى في وجود خجول للطبلة (الدربكة).

لم يكن رشيد طه في تلك المرحلة يشدو دون وعي بأنه يعبر عن فئات واسعة تشبه ويشبهونه، في تلك الفترة التي بدأت فيها فرقة "كارت دي سيجور" مشوارها، برزت مطالبات من ذوي الأصول المغاربية بوضع حد للعنصرية في فرنسا، ولم يكن رشيد وزملائه بعيدين عن المسيرة الشهيرة التي طالبت بالعدالة ورفض العنصرية عام 1983، واستجاب لها الرئيس الفرنسي ميتران آنذاك، لذا كانت كلمات رشيد طه مبكرا للتعبير عن هذا الجانب من شخصيته. ومنذ البداية حتى وفاته ظل يجاهر بانتقاد العنصرية داخل فرنسا، بل فتح النار على الإعلام الفرنسي متهما إياه بتجاهل ألبومه zoom في العام 2013، مشيرا إلى ما يجده من ود في الخارج حين يتعاملون معه كفنان عالمي وليس كعربي، مثلما يحدث في فرنسا.
مع بداية عقد التسعينات يبدأ رشيد طه مشواره منفردا وليس كمغن في فريق غنائي، وإلى جانب مواصلة المزج بين القوالب الغنائية المتعددة، يعرض قالبا موسيقيا خالصا، كما فعل في أغنية يارايح التي أكسبته مزيدا من الشهرة في العالم العربي، وهي لمطرب أقدم هو دحمان الحراشي، التي قدمها رشيد بإيقاع عربي خالص، كأغنية ملائمة لما يعتنقه من أفكار عن الهجرة والحنين، ولعل تجربته مع الشاب خالد والشاب فاضل في ألبوم 1,2,3 Soleils كانت الأكثر ثراء في تقديم أغان جزائرية خالصة، مثل "عبدالقادر" و"المنفي".
يتلاعب رشيد بما لديه من موروث، ففي الثمانينات يصنع مع فريقه السابق أغنية باسم الشيخة ريميتي الجزائرية بعنوان Remitti، وبعدها بأكثر من 20 سنة تظهر أم كلثوم في أغنية ZOOM SUR OUM. فإلى جانب تقديم القوالب الغنائية الخالصة، يقدم أعمالا يشير فيها إلى جذوره بشكل غير مباشر وبشكل مغاير.

على مدار أكثر من 35 سنة قضاها في مجال الغناء، لم تتغير قناعاته أو تتبدل في انكسارات حادة، فرشيد طه في 2018 امتداد حقيقي لما أنجزه منذ الثمانينات، لم يكن ذلك فقرا غنائيا بقدر ما كان ذكاء حين قرر مبكرا فتح كل الأبواب كي يتيح لنفسه مجال حركة واسع في الغناء.
هذا المسار الذي اختاره منذ البداية، لم يصنع تشتيتا أو ضبابية، فقد كانت الأولوية واضحة أمامه مثلما أكد في مقابلة إذاعية أخرى تحدث فيها بوضوح عن أنه أقرب إلى الروك من الراي، وفي هذا التصريح يبدو متصالحا مع مشواره الذي حاول فيه صنع "الروك العربي"، الأمر الذي دفع مجلة رولنج ستون تضع عنوانا بعد رحيله ينعي نجم "الراي والروك" المثير للمتاعب.

توغله في موسيقى الروك دفعه أيضا إلى إحياء أعمال سابقة مثل أغنية "روك القصبة" لفريق clash الإنجليزي، وإعادة غناء Now Or Never لملك الروك أند رول ألفيس بريسلي. فرشيد لا يتخلى عن عالم الروك، كما لم يتخلى عن الموسيقى الجزائرية.
الشاب الذي بدأ حياته عاملا في مصنع يغمره المهاجرون، وينخرط ليلا في لعب الأغاني DJ بالملاهي الليلية، انفتح على أنواع مختلفة من الموسيقى، وكلما مر الوقت ازداد نضجا وقوة في إيصال رسائله، "ما ننساش العبودية.. والعنصرية" هكذا يغني في العام 2013 الذي اشتكى فيه من تجاهل الإعلام، ويقول في حوار صحفي إن "الحكومات الفرنسية المتعاقبة لم تقم بشيء ولم تحسن من وضع المهاجرين وأبنائهم، ما أدى إلى ظهور نوع من العنف والتطرف في الأحياء الشعبية".
هذا الموقف الدفاعي ضد العنصرية والتغول اليميني الفرنسي، لم يمنعه من انتقاد ما يراه من سلبيات في الجانب العربي، ففي عام 1997 يغني أغنية بعنوان زبيدة تناقش ما تتعرض له الفتاة العربية من انتهاك لحقوقها، ويكرر الأمر ذاته في العام 2013 مع أغنية بعنوان جميلة، عن فتاة تم إجبارها على الزواج دون أخذ رأيها، وانتهت قصتها بالانتحار.

في الألبوم الأخير zoom تطورت التجارب التي مر بها رشيد طه إلى مجموعة من الأسئلة، في أغنية "وإيش نعمل؟". تبدو الأسئلة بسيطة وساذجة "هل أنا عربي؟ هل أنا أوروبي؟ هل أنا هندي؟ هل أنا أسود؟ وإيش نعمل؟ .. قلبي دايما صافي". رحل رشيد طه، بعد أن أراد أن يكون كل شيء، نجم روك، مغني عربي، صوفي، عربيد.. يتساءل كيف يرونه؟ عربي.. أوروبي؟ أم ماذا؟ قلبه الذي تحمل مشوارا صاخبا، توقف عن العمل في ليل الثلاثاء 12 سبتمبر 2018 قبل أيام من بلوغه الستين، بعد أن نجح في خوض تجارب متنوعة وعبَّر عما بداخله دون خوف.

ليست هناك تعليقات: