السبت، 19 سبتمبر 2009

الجسر

(- درست الموسيقى الغربية.. فلماذا جاء تحولك للشرقية؟

- كان سؤال البحث عن الذات ملحاً لسنوات طوال، حتى جاءت الانتفاضة الأولى فتنبهت للإجابة عن سؤال أين أنا من حركة شعبي و شعرت بالحاجة للمشاركة في التعبير عنه فكانت مرحلة التحول.)*

....

أين يبدأ الحديث عن الموسيقى؟، وأين ينتهى سحرها ؟

كتبت سلفاً عن "الأفراح" الرحبانيّة، وكما ألهمتني تلك الأفراح، أوحى "بريدج خالد جبران" إليّ بياسين، ولا زالت هناك أشياء لم تكتب بعد من وحيه، أو كما يقال "يا مّا في جراب يا حاوي"

كذلك يخرج جبران لنا من جراب موسيقانا الشرقية ألحان مختارة بمزاج أصيل، مستعيداً تلك الألحان في عمله الثالث الجديد "بريدج"، مطوراً بقوة تجربته الأولى في "أم الخلخال" بمصاحبة (فرقة الموسيقى الشرقية)، يأتي اختلاف التجربة شكلاً في الحضور البارز القوي للآله البزق الشاميّة التي شارفت على الإنقراض من كثرة النسيان والإهمال والتهميش، وتواجد آلالات أخرى تراثيّة نادرة كمثل الربابة والأكورديون والكولة المصريين، ويغامر جبران موضوعاً بإعادة توزيعه الجلّية للمقطوعات المختارة مبدلاً ومغيّراً في روحها الأصلية بمتعة الفنان الحقيقي.

ينبهنا جبران إلى أول المقطوعات من الرنّة الأولى المميزة للآله البزق قبل أن تعزف للشيخ سيد درويش "شد الحزام" عزفاً حاداً دقيقاً، متكرراً في حلقة واحدة متوازية بين آلالاتي البزق والكولة، تؤكد سميتريتها من الشعور بحرفيّته العالية المتميزة في عزفها، التي سرعان ما تشعرك بنزع جبران لروحها الحماسية الأصلية منها تجعلها جافة شديدة الجفاف، فهل من سرّ وراء هذا ؟

وما السر وراء "أم الخلخال" ؟، تلك المقطوعة العراقية للعظيم الراحل "منير بشير" التي شغلت بال جبران كثيراً، فكان عنوان عمل فرقته الأول باسمها حيث قدمها لأول مرة، ثم أعاد توزيعها مرة أخرى في "بريدج"، فإذا سمعنا النسخة الأصلية لمنير بشير، أحسسنا البهجة الشجيّة التي يشيعها رنين الجلاجل والصاجات في خلفية المقطوعة، نسمعها كصدى بعيد يمر في المساحات الفارغة من صوت العود، كأنها قادمة من زمن قديم بعيد، لكن عندما أعاد جبران توزيعها في المرة الأولى، خفض إيقاعها، حتى رنينها، قصره على رنّة المثلث والرق، فصارت أكثر حزناً كأنها تنعي لنا رحيل منير بشير مرة أخرى، ثم يعيد توزيعها للمرة الثانية، حيث يفرد مساحة طاغية لآلاتي الناي والكولة والربابة الحزينات، تسمعها بوضوح في نهاية المقطوعة، جاعلاً منها عويلاً صارخاً بالبكاء، لا ينعي لنا منير بشير فحسب، بل ينعي لنا منير بشير والعراق والشرق كله.

سنتذكر أفراح زياد الرحباني بسماع "يا مرسال المراسيل" لفليمون وهبي، فجبران يقوم على ما قام عليه زياد وإن اختلفت الأذواق شكلاً وموضوعاً. يقدم جبران التراث بكل أشكاله، فلكلورياً في "يا ميت مسا"، والتراث المسجل في "سماعي شدّ عربان" للفنان التركي المجدد جميل بك الطنبوري، والسماعي هنا شكل كلاسيكي من أشكال موسيقانا العربية، كما يقدم "لا عيوني غريبة" لوديع الصافي، التي يهديها خالد جبران إلى روح عازف البزق اللبناني مطر محمد، و"واه حبيبي"، ترنيمة من ترانيم الجمعة العظيمة، نعرفها خاصة بصوت فيروز، وهي في الأصل لحن من الموسيقى الكلاسيكية الغربية للموسيقار جيوفاني بيرغوليزي.

يقول علاء حليحل "فالاستماع إلى "مرسال المراسيل" أو "لا عيوني غريبة" في هذا الألبوم لا يعادل الاستماع إليها مُغنّاة من فيروز والصافي؛ فجُبران يُخرج هذين اللحنين من رتابة ما قد أسمّيه "الحبّ العاديّ" للألحان وللأغاني المألوفة والمُحبَّبة، نسمعها في البيت أو في السيارة أو أثناء حفلة عرس، ويأخذهما إلى منطقة "الحبّ الكشّاف"، إغفروا لي فلسفتي المصطلحيّة، أي ذاك الحبّ الكامن فيكَ (عن معرفة سابقة) إلا أنه يكشف وينكشف من جديد، وهو بهذا يُنسيك "الحبّ العادي" الأول."

يعبر بنا جبران جسور عدة، لا جسراً واحداً، بين مصر والشام والعراق وتركيا، إلى حسّ جديد بموسيقانا الشرقية.

....

(هل موسيقانا الشرقية تطريبيةٌ بحكم تعريفها؟، هل قدرها محتوم فعلاً بالتعبير عن "منتهى الفرح" أو "غاية الحزن" فقط؟، وما هما سوى: "طرفين نقيضين من الوجدان يتحدان فتغدو الحالة طرباً"!، ماذا عن باقي الحالات النفسية والشعورية التي تُشكل جل كيانك النفسي اليومي وهي خارج خانة التطريب أو الوله والبكاء؟، ماذا عن الخوف؟، الحسد؟، ماذا عن الأمل, القلق، الملل, الجشع، الإحباط؟، والشجن؟، وماذا عن نشوة الانتصار المؤقت عند اجتيازك الحاجز العسكري المجاور بسلام ؟

ماذا عن العقيدة الإلهية إذ تتهاوى في أعماقك خزياً يوم يقوم "سيد العالم الأبيض" مدافعاً عن "صليبه المقدس" بصلبك واخوتك ولغة أمك على صفيح أكواخ مخيم جنين أو البصرة؟، ماذا تكتب أيها الموسيقي حينها وماذا تعزف؟، أموشحات أندلسية حالمة أم سماعيات تركية مُرَفهّة؟، وهل تتناغم إيقاعاتها الرصينة مع رشاقة وقع الصواريخ على ليل بيت جالا؟)*

ليست هناك تعليقات: