لماذا لم تغنِّ أمّ كلثوم لحناً واحداً للشيخ سيد درويش؟
تحكي المفارقة أن أمّ كلثوم وصلت من قريتها طماي الزهايرة لتستقر نهائياً في القاهرة، في نفس العام الذي توفّي فيه الشيخ سيد درويش البحر.
عادةً، يحب الراصدون والمؤرخون المفارقات، يفرحون بها أو يلجئون إلى خلقها إذا لم تكن موجودة. وإذ كانت السنة التي استقرت فيها أمّ كلثوم في المحروسة موثّقة، فإن ثمة مفارقة ليس بالضرورة أن تكون حقيقةً، وهي أن أمّ كلثوم غنّت للمرة الأولى على مسرحٍ في القاهرة في ذات اليوم الذي ارتفع فيه الشيخ سيد إلى السماء.
يمكننا أن نفهم ولع هؤلاء الراصدين بهذه المفارقة، التي لا دليل على أنها حقيقة كما لا دليل على أنها محض خيال، إذا وضعناها في سياق ولعهم بأمّ كلثوم، ومحاولة إلصاق سيرة الشيخ سيد، كيفما اتّفق، بسيرتها هي، فإذ أنّ الظروف لم تُتِح لهما أن يلتقيا، فلتتحوّل القصّة إذن إلى تلك المفارقة، شخص يسلّم الراية لآخر، وهكذا، يجدون المبرر، وهو المولعون بأمّ كلثوم، لوضعها في منزلةٍ واحدةٍ مع الشيخ سيد.
ذُكِر أيضاً أن أمّ كلثوم كانت دائماً ما تردد حكاية هذه المفارقة، كما أنّها وردت في المسلسل الذي تناول حياتها. كما يُذكَر أيضاً على لسانها، أنها كانت تعتبر الشيخ سيد أهم ملحني مصر إطلاقاً، وأنها كانت تتمنى أن تلتقي به وهي في القاهرة، وأن يلحّن لها. هذا، ما يُذكر على لسان من لُقِّبت بـ"كوكبِ الشّرق".. "سيّدة الغِناءِ العَربيّ".
في الفترة التي تمتد من ثلاثينيات القرن الماضي، حتّى يومنا هذا، غنّي كثيرٌ من المطربين ألحان الشيخ سيّد درويش، زكريا أحمد (الكوكايين وغيرها)، محمد عبد الوهاب (الشيطان وغيرها)، كارم محمود (ياللي قوامك يعجبني وغيرها)، سيد مكاوي (والله تستاهل يا قلبي)، وغيرهم كثيرين، بل وحتّى خارج مصر، غنّت له السيدة فيروز، وغنّى له صباح فخري وسعاد محمد، وأشهر منشدو الموشحات والقدود الحلبية مثل صبري مدلل. كلّ من عُرف عنه ولعه بالسّيّد درويش البحر غنّى له، وحدها أمّ كلثوم عُرف عنها هذا الولع، دون أن تترجمه ولو بأغنية واحدة، ولم يطرح أحدٌ هذا السؤال، لماذا؟
لماذا تخلّت أمّ كلثوم عن ألحان القصبجي الرشيقة المميزة لصالح ألحان السنباطي التي تمجّد صوتها ليس أكثر؟
كان القصبجي ملحناً فذّاً، بارعاً في استحضار الجُملِ الموسيقيّة، تقترب جملته من التمام، تستطيع أنّ تميّز أنه القصبجي من جُملته، صاحِبُ بصمة دون أن يكون مكرّراً. تشتم رائحة القصبجي في "قلبي دليلي" و"ما دام تحبّ بتنكر ليه" و"إمتى حتعرف إمتى" و"يا صباح الخير ياللي معانا" و"رقّ الحبيب"، هو المجدد الأول في الموسيقى العربية، باعتبار أن السّيّد درويش هو المؤسس وزكريا أحمد هو امتداد التراث، فماذا حَدَث للقصبجي؟
معروفٌ أن قصب كان غارقاً حتّى أذنيه في غرامِ أمّ كلثوم، ومعروفٌ أيضاً أن أمّ كلثوم كانت تعرف أن قصب غارقٌ حتّى أذنيه في حبّها ولكن هي لم تكن تحبّه.
بدأت علاقة القصبجي مع أمّ كلثوم منذ اللحظة الأولى التي وطأت فيها قدما ابنة المنصورة أرض المحروسة، غنّت من ألحانه قبل أن تتعرف عليه، وكان لقاؤه أمَلاً لها باعتباره من الملحنين الذين حققوا شهرة لا بأس بها في مصر، بينما مازالت هي مطربة جديدة تطمح إلى النجاح. بعد أن تعرّفت ابنة المنصورة على القصبجي وبدأ التعاون بينهما اشتهرت هي بألحانه هو، وبدأ تهافت الملحنين على التعامل معها، فهي أولاً صوتٌ قويٌّ مغرٍ لأيّ ملحنٍ، وثانياً هي وجهٌ جديدٌ في مرحلة تحوّلٍ موسيقي فيه ثورةٌ على الأنماط الموسيقيّة القديمة، ثورة وجوهها شبابٌ كمحمد عبد الوهاب، سحبوا معهم الجيل الأقدم كزكريا أحمد والقصبجي، في الوقت الذي كانت رموز النمط الأقدم، كمنيرة المهدية وفتحية أحمد وبديعة مصابني تتكسّر وتنهار.
وهكذا يمكننا بضميرٍ مرتاح ودونما أن نكون بعيدين عن "العدل"، اعتبار أن القصبجي هو من صنع من أمّ كلثوم مطربة، بدأ معها رحلتها من الصفر ومنحها ألحاناً بيّنت قدرات صوتها اللا تقليدية وكان سبب انتشارها في عالِم الغِناء.
كان لحن "رقّ الحبيب" علامة فارقة، فهو من ناحية نقلة في أداءات القصبجي كملحّن، لم يعتد على تلحين الأغنيات الطويلة، ومن ناحيةٍ أخرى نقلة في أغنيات أمّ كلثوم، إذ حقق اللحن شهرة ونجاحاً لم يحققه لحن من الألحان السابقة التي تغنّت بها، ومن ناحية ثالثة، كان هذا هو آخر تعاونٍ بين القصبجي الملحن وأمّ كلثوم، فبعده، رفضت ابنة طماي الزهايرة غناء أي لحنٍ جديد للقصبجي إلى توفي عام 1966.
المولعون بأمّ كلثوم، يؤكدون أن القصبجي أفلس بعد تقديم هذا اللحن، وأن أمّ كلثوم بعبقريتها وحنكتها اكتشفت ذلك، فامتنعت عن قبول أيّ لحنٍ آخر من قصب. ولكن ليس من دليل مفهوم منطقي مُرتبطٌ بالموسيقى، أو بدراسة شخصية القصبجي ونفسيته، يؤكدّ هذا الزعم، ولذلك، فهو زعمٌ لا يعوّلُ عليه.
في فيلم دنانير عام 1940، رفضت أمّ كلثوم التعاون مع ملحنٍ شابٍ لعلّها لم تكن تتذكّر اسمه، ولأن أغنية لحّنها هذا الملحّن كانت ضروريّة في سياق الفيلم، فقد سجّلها هذا الملحّن بصوته. ولكن بعد عرض الفيلم، واستمتاع ثومة بأغنية "على بلد المحبوب ودّيني"، وافقت على تسجيلها، وطلبت ترتيب لقاءٍ بالملحّن الشاب رياض السنباطي.
كان هذا قبل أن يلحّن القصبجي رقّ الحبيب بثلاثة أعوام، بعد أن التحق السنباطي، الملحّن المجهول، بأمّ كلثوم، بثلاثة أعوام، تخلّت "سيدة الغناء العربي" عن ملحّنها الأول، ليتحوّل إلى عوّادٍ في فرقتها الموسيقيّة، لصالِح ملحّنٍ شابٍ مستعدٌّ تماماً أن يرضخ لشروط "كوكب الشرق" في موسيقاه مقابل أن يلحّن لها، فرسمَت هي ملامح جملة السنباطي الموسيقية التي تمجّد صوتَ مَن يغنّي دون أن تعلق جملة موسيقيّة بذاكرتك لِما فيها من جَمال. ولأنّ الأصوات الأخرى ليست كصوتِ أمّ كلثوم، لم ينجح للسنباطي أي لحنٍ مع مطربٍ أو مطربةٍ عدا أمّ كلثوم.
واستسلم قصب تماماً لما تفعله به أمّ كلثوم بسبب ولعه بها، يكفيه أن يبقى بجوارها ولو كعوّادٍ في فرقتها الموسيقيّة، على أمل أن يأتي يوم ما، تطلب منه "السِّت" لحناً، لكّن هذا اليوم لم يأتِ أبداً. ولكنّ السؤال حول موقف أمّ كلثوم من قصب مازال إلى الآن بلا إجابة، لماذا؟
ماذا لم تتعاون أمّ كلثوم مع عبد الوهاب إلا بأمرٍ رئاسي؟ ولماذا كانت مرتعبةً من المقدّمة الموسيقية لـ"إنتَّ عُمري"؟
في أواسط ثلاثينيات القرن الماضي، حاول طلعت باشا حرب، صاحب استوديو مصر، إنتاج فيلم يقوم ببطولته محمد عبد الوهاب وأمّ كلثوم، ولكنّه فشِل.
تمنّى الجمهور المصري بشغفٍ لا مثيل له أغنية تؤدّيها له أمّ كلثوم يلحّنها عبد الوهاب، كان يعرف أن عبد الوهاب، بموهبته وثقله الموسيقي، قادرٌ على استكشاف مناطق أخرى في صوت ثومة، وكان يعرف أيضاً أن عبد الوهاب الموسيقي المولع بالمزج بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغريبة، سيشكّل نقلة في ما تقدّمه أمّ كلثوم من ألحانٍ. كان الجمهور المصري يجري وراء متعة يفتقدها دون أن يعرف لماذا.
كانت لعبة القط والفأر ملمحٌ مهمٌّ في العلاقة بين ثومة وعبد الوهاب. كلٌّ مِنهما يتفوق على كلِّ من عداه في عالم الموسيقى، إلى أن تصل المنافسة إلى القمّتين فيشفل أيٌّ مِنهما في حسمِها لِصالحه، فيما يتعلّق بالأجور، وفيما يتعلّق بالمناصب، وفيما يتعلّق بالجماهيريّة.
امتدّ التعثّر في جمع القمّتين بعد محاولة طلعت حرب الفاشلة في منتصف الثلاثينات نحو ثلاثين عاماً، عبّر خلالهما جمال عبد الناصر، الذي كان أحد المولعين بأمّ كلثوم وبعبد الوهاب، أكثر مِن مرّة، عن رغبته في أن يستمتع بأغنية يلحّنها ملحّنه المفضّل لِمطربته المفضّلة دون جدوى. يطلب منه مرّة ومنها مرّة ومنهما سويّاً مرّة، إلى أن يحتدّ عليهما ذات يومٍ في أحد احتفالاتِ عيد الثورة بجامعة القاهرة، ليبدو الطلب في هيئةِ أمرٍ رئاسي، فيرضخ الطرفان أخيراً، وتبدأ رحلة التعاون في "أنتَّ عُمري".
حتّى الآن، يمكننا أن نضع عزوف أمّ كلثوم على التعاون مع عبد الوهاب في سياق لعبة القطّ والفأر المذكورة آنفاً، إلا أن التفاصيل اللاحقة والخلافات التي نشبت فيما يخص الأغنية، تفتح أعيننا على سؤالٍ آخر.
في المرّة الأولى التي استمعت فيها أمّ كلثوم للمقدّمة الموسيقية التي وضعها عبد الوهاب للأغنية كادت أن ترفضها، فهي مقدّمة موسيقية مميّزة تلفت الانتباه بحدّ ذاتها، يستعرض فيها عبد الوهاب إمكانياته كملحّن، وليست المقدّمة فقط، فحتّى لحن الأغنية، متنوعٌ وراقص، له معنى في حدِّ ذاته لو عُزِفَ منفرداً دون غنائها.
كانت حجّة أمّ كلثوم على المقدّمة استخدام آلة الجيتار، تلك الآلة الغربية التي لم تستخدمها مطلقاً في أيٍّ من أغنياتها، كانت تقول إنّها خائفةً مِن ردِّ فعل الجمهور على تلك الخطوة الجريئة، كانت تقول إن جمهورها لم يعتد عليها تغنّي بعد مقدّمة موسيقية تتنوع بين الكونترباص والجيتار والقانون.
ولكن، هل كانت أمّ كلثوم غبيّة؟ كلا!
لأنّ أمّ كلثوم لم تكن غبيّة، فإنّها كانت تعرف جيداً أن جمهورها سيحبّ هذه المقدّمة، فهي، أي المقدّمة، مُلفته وجيدة من الناحية الموسيقيّة، وهو، أي جمهورها، لن يرفض تعاونها الأوّل مع عبد الوهاب، خاصّة وأنّه مُلفتٌ وجيّد.
لأنّ أمّ كلثوم لم تكن غبيّة، فإنّها كانت تعرف أيضاً، خلال ثلاثين عاماً، أنّ أيّ تعاون بينها وبين عبد الوهاب سيؤدّي إلى أن تؤدّي أغنية لحنها لافتٌ وجيّد، يختلف عن ما يقدّمه لها السنباطي وغيره.
ولأنّنا لسنا أغبياء، فيحقّ لنا أن نربط بين تخوّف أمّ كلثوم من اللحن الذي كانت تعرف تماماً أنّه جيّد وأن جمهورها سيحبّه، وبين عزوفها عن التعاون مع عبد الوهاب طوال ثلاثين عاماً.
لمّ تغنِّ أمّ كلثوم سيّد درويش رغم أنّها كانت مولعةً به، ولَم تقبل أمّ كلثوم مزيداً من ألحان القصبجي رغم أنّ ألحانه كان لها بصمةً مميزةً في أغانيها، ولَم تتعاون مع عبد الوهاب إلا بعد أمرٍ رئاسيٍ وحاولت مسح بَصمَته الموسيقيّة عن الأغنية.
فهل كانت أمّ كلثوم تحب أن تلفت الموسيقى المميزة اهتمام جمهورها؟
----------------------------------------------------------------------------------------------
الصورة الاولى : صورة نادرة للشيخ سيد درويش اهداء شريك المدونة حسين الحاج
الصورة الثانية : لقطة تجمع بين القصبجى وام كلثوم
الصورة الثالثة : جانب من بروفات انت عمرى تجمع بين عبد الوهاب وام كلثوم - الصورة من منتدى سماعى للطرب العربى الاصيل
هناك 5 تعليقات:
بوست ممتاز!
بعيدا عن أم كلثوم حاسك متحامل على السنباطي ... فألحانه كانت مميزة و أكثر عصرية من القصبجي ... فهو ليس مجرد بديل له ذة أمكانيات أقل
معذرة سيدى لان الصورة الثالثة والتى تجمع عبد الوهاب وام كلثوم لم تكن من بروفات انت عمرى حيث يظهر فى خلفية الصورة عازف الاورج هانى مهنى وهذا يوضح ان الصورة التقطت اثناء بروفات او على الارجح اثناء الحفلة لاغنية ليلة حب كما ايضا يبدو باقى اعضاء الفرقة الموسيقية فى سن اكبر من مرحلة انت عمرى. مع خالص تحياتى
عظيم
رغم أني مصدومة و زعلانة بشكل ما أني عرفت الكلام ده , بس البوست و طريقة الكتابة عظيمة
واضح تحاملك على السنباطي، الملحن الأول للقصيدة العربية
إرسال تعليق